السبت، 7 يناير 2012

خاطرة (قصة المكينة والترس)

خاطرة

*المكينة و الترس*

بسم الله المولى الجليل النور الهادي لسراط الهدى المستقيم الذي ليس دونه هدى ولا غيره الا الضلال "قل إن هدى الله هو الهدى.." ,"ومن يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا"

والصلاة والسلام على أشرف خلق الله رسول الأمة المهداة ونور الهدى الذي اصطفاه النور الهادي لينير للخلق سراط الله المستقيم ويقصوهم عن ظلمات الهوى وسبل الضلال ,"وإنك لتدعوهم إلى سراط مستقيم","..وإنك لتهدي إلى سراط مستقيم"

,,

أما بعد, إخواني في الله وفي إتباع نور الله في هدي نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم)

تعالوا بنا اليوم نبحر في رحله جديده بسفينة الفكر التي اعتدنا ان نقصوا بها ونتعمق في بحر الخواطر الذي ينتابه أمواج التأمل والتخيل لسماء الواقع,,

(فكما ذكرنا في مقدمة السلسلة ,أن رؤيتنا في كل خاطرة تتمثل في تجسيد الواقع في صورة الخيال ليراها العقل من منظورة فيدركها ويطبقها على أرض الواقع)

,,

فخاطرتنا اليوم تدور حول قصة خيالية ,تخفي في باطنها حقيقة ,يعجز كثير منا عن فهم هذه الحقيقة بكامل ادراكها ليوجدها في واقعه دون عجز أو تقصير

تسرد هذه القصة شيئين من محتوى الحياة ألا وهما "المكينة والترس", ولكنهم يمثلان في منظور الكاتب مثيلان من حياة الإنسان سيدركها القارئ بعد قراءة القصة

,,

***************

وتروي هذه القصة عن رجلا ثريا عالما وعاملا بصدق النوايا ,وكان يعمل طرازا للأقمشة والملابس ,وكان له من المهاره في فن الطرازة ما يميزه عن من حوله من الطرازين ,وكان كثيرا ما يسعى في سبل الخير ويقدم أطيب ما عنده في سبيل الله شكرا لله على هذه الهبة والنعمة

و في يوم من الأيام بنى هذا الرجل دارا للأيتام,وكان كثيرا ما يرعى الأيتام فيه ويصنع لهم بالأقمشة الدمى والألعاب ويطرز لهم أقيم الملابس بتطريز ابداعي لا يماثل له في المدينة ,وكان لا يصنع هذه الملابس بهذا الإبداع الا لهذا الدار, حتى ان أهل المدينة صاروا يشترون الملابس من الأيتام ليحصلوا على هذا الابداع الذي لم يستطيعوا ان ينالوه من أي طراز, فكان هذا الرجل يقدم أحسن ماعنده في سبيل الله ويدرك بأن هذا الإقدام بالنوايا الطيبة لا يحقق ثوابه الا بالعمل((والاتقان فيه)) , ,,

وبعد حقبة من الزمان ,شاخ هذا الرجل وهرم مع تقدم سنه , وأحس انه لم يبقى من عمره الا ما يريده الله له , فأدرك انه لابد ان يترك شيئا يحل محله ليظل هذا العمل صدقة جارية , ويظل الايتام في فرحة وسرور وتميز عن غيرهم بما يقدمه لهم هذا الرجل

فقرر الرجل ان يصنع شيئا جديدا يحل محله بعد موته,ويكون وسيلة لاسعاد هؤلاء الأطفال الأيتام ,وهو ان يصنع مكنة يضع فيها كل سر مهنته وموهبته التي اعطاها الله له

فبدأ الرجل في تركيز كل قدرته بكل دقة واتقان ليصنع هذه المكنة ,فبدأ الرجل في صناعة آلة كبيرة ,تتكون من مكنة بها بدال صغير , وفي أعلاها ترس ذهبي صغير في عمق الآلة بين أتراس كبيرة , وكان قد وضع في تصميمه سر موهبته

وبعد ان انتهى من صناعتها , ترك فيها "لغز" , وهي عبارة على ظهر هذه المكنة مكتوب عليها "حسن النية وإتقان العمل", وتركها في حجرته التي كان يصنع فيها الملابس في دار الأيتام , وعلق عليها ورقه وكتب عليها

"صنعت لبَني الأيتام سنارة , وتركت لهم الله , فليرزق من يستحق طيب البحر"

ومرت الأيام ومات الرجل , فذهب ذويه وأصدقاءه من الطرازين الى مقر ابداعه في دار الأيتام , وسألوا عن ما تركه ليعطوا من ميراثه كل ذي حق حقه

فأخذ أهله وذويه ما أخذوه , ولكنهم عندما رأوا هذه الآله أرادوا ان يأخذوها بكل الوسائل ولكنهم وجدوها مكتوب عليها هذه العبارة وهي

"صنعت لبني الأيتام..."

فعلموا انها لحق الدار وليست ملكا يورث ,

ولكنهم عرفوا بأن هذه الآله قد ترك بها سر الموهبه اللي كان يبدع بها في صناعاته في حياته , فذهبوا الى التجار والطرازين من أصدقاءه , واجتمعوا جميعا على أن يشتروها بأغلى ثمن يختاره الدار لبيعها , ولكن الأيتام أصروا على بقائها

وبعد وقت ,بعد ان استقر الأيتام على بقاء هذه الآله في الدار ليستخدموها في صنع طرازاتهم , بدأ الأيتام يبحثون فيها عن طريقة عملها , فوجدوا على ظهرها اللغز الذي تركه لهم , وهو "حسن النية وإتقان العمل" , ففهموا معنى العبارة التي ترك بها وصيته "صنعت لبني الأيتام سنارة,..,.."

فبدأ بعض الأيتام في إستخدامها , وبدأوا يديرون بدال هذه المكنة ,فبدأت الآله تعمل ويدور فيها أترسها , وتنتج الطراز الجميل من الملابس

وكان الايتام قد أخذوا عهدا ان من يسعى فيها ينتج لذاته الملبس الذي يصنعه , وأن من لا يسعى فيها ليس له حق في نتاجها

فافترق الايتام الى فرقتين , فرقة تعمل وتصنع وتتقن في عملها , وفرقة متكاسله ,تقول سأعمل وسأقوم ولكنهم عندما يجلسون على بدال المكنة يجدونه ثقيل فيتكاسلون ويعودون الى أسرتهم دون ان ينتجوا أو يصنعوا لأنفسهم الرزق

وبعد فترة قرر الأيتام المتكاسلون ان يبيعوا هذه الآلة التي رزقهم الله بها على يد هذا الرجل الصالح ليأخذوا ثمنها ويتقاسموه بينهم على حسن نية ان يوفروا للدار تجهيزات لم تكن موجوده فيه (**فهذا كما قال الله تعالى "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا" فهي لم تكن ملكهم ولكنها رزق من الله ليبلوهم بها) ,

فاعترضهم الايتام العاملون وقالوا لهم انهم بعملهم بها وبيع منتجاتها يستطيعون مع الوقت توفير المال لشراء هذه التجهيزات , ولكن اذا توحدوا جميعهم في العمل بها من أجل هذا الهدف

, ولكن خذلتهم الحياة فلم يكونوا الا شرذمة قليلة (**فكما قال الله تعالى "..إعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور" فقليل ممن يدرك معنى الأجر عند الله بأنه بحسن النية التي يصدقها العمل)

وبعد أن صوت الأغلبية على بيعها وتقاسم ثمنها بينهم , ذهبوا الى التجار من الطرازين وعرضوها عليهم , وعرضوا عليهم مبلغا كبييرا جدا لبيعها , فلم يقدر على شرائها تاجر بمفرده , فقرر التجار ان يجمعوا أموالهم ويشتروها ,ويتعاونوا مع بعضهم البعض في إستخدامها

وبعد أن جمعوا المال وأشتروها من الدار , تقاسموا بينهم ساعات العمل بها , فأخذ كل تاجر بضع ساعاته ليستخدم الآلة لينتج بها الطرازات القيمة

ولكن كان كل تاجر يستغل ساعاته بكل جشع وطمع في أن ينتج أكبر قدر من الطرازات , فصاروا يعملون عليها دون توقف وبكل قوتهم (في حين انها مصممه للصغار )

فبعد مرور قليل من الأيام , أصبحت الآله لا تنتج الطرازات بصورة قيمة كما كانت تنتج في أول الأمر

فاجتمع التجار على ان يذهبوا بها الى من يفقه فيها , فذهبوا بها اليه ,وعندما فحصها , وجد داخلها ترسا ذهبيا لم يرى مثله من قبل قد كسر ولا يستطيع اصلاحه الا من صنع هذه الآلة

فندم التجار على جشعهم وعملهم دون إخلاص النية لله , ولجهلهم ان ما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل

وبعد عده شهور , نفذت الاموال التي أخذها الأيتام وإفتقر الدار , وندم الأيتام على تكاسلهم وتواكلهم مع حسن نيتهم , ولكن صدق النوايا لا تكفي

..

*******************

وبعد تأملنا في هذه القصة , واجتاش فيها التشويق والعاطفة لندرك مغزى هذه القصة التي تلون خاطرتنا التي تدور حولها القصة ألا وهي "العمل والنية" (المكينة والترس)

وغير اننا قد وجدنا كل ما نستطيع ان نتأمله في خاطرتنا داخل هذه القصة , الا ان هذا الأمر لا يمكن ان يقتصر في مشهد أو حكاية واحده , فقد اجتهد فيه كثير من العلماء في توضيحه بالعلل والبراهين التي رويت واسندت لكثير المفسرين على مر العصور

ولكن التطبيق لا يأتي الا من إدراك الصورة الكاملة لهذا الواقع

فكثير منا تمر به كثير من الأحداث والمواقف ,ومنها يقوم بكثير من الأعمال أو يتكاسل عن أدائها , كما انه في أغلب الأوقات لا تكون نيته الخالصه لله هي التي تحفزه على العمل

فلنرى مثالا على من يخلص النوايا ولا يعمل بها , فمثالا على ذلك من يقول انه لا يصلي ولكنه اذا سألته يقول لك اني احب الله ورسوله وان الله يعامل الناس بما في قلوبهم , وعندما تسأله عن أمر الأخرين ممن يحافظون على الصلاه , تراه يقول لك "انت تعرف ايه اللي في قلوبهم , دول عالم رياءه ومنافقه , بتتظاهر بالتقى والورع وما بداخلهم كله سوء"

وليس هذا بالعاقل الرشيد, وهناك كثير من الأمثلة التي يمكن ان تمثل هذا النموذج في شتى ميادين الحياه

ولنرى مثالا أخر على من يعمل ويتقن في العمل ,ولكن لنية وغاية دنيوية زائلة , فمثلا على ذلك , من يسعى بكل ما اعطاه الله من صحة ومال في خدمة السلاطين والمسؤلين وتقديم لهم السمع والطاعة دون ان يدرك اذا كانت أمورهم في صالح نصرة الله أم في الباطل , فلا يعطي لله قدرا لنيته في عمله , واذا جاءه الفقير أو الضعيف لا يعطي له بالا , فإنه على حد عقله الضئيل مقتنع بأن من سينفعه او يضره هو هذا المسؤل أو السلطان , ولا يدرك ان الله القادر على كل شيء يستطيع ان يهلك هذا السلطان ويجعله افقر ممن يسجي اليه حياته وعمله كله , وليس له في الآخرة الا الهلاك

وقد رأينا الكثير من الناس قد اتبعوا هذا النهج في حياتهم في النظام البائد الذي قدر الله بعزته وأهلكه

"وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا"

والأمثلة على هذا النموذج تتمثل في كثير من غيرها من الصور في نماذج حياة البشر

ولكن اذا نظرنا الى الانسان الراشد القويم , فهو الذي يضع النية الخالصة لله ومنها يصدق النية بالعمل المتقن الذي لا يفرق بين انسان عن غيره , كما انه يدرك ان النية لا تكفي من غير عمل ,فلا يكون لعمل في سبيل الله الا ويعطيه أطيب ما عنده

"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"

فمثالا على ذلك رجلا ولنفرض انه طبيب , يدرك من عمله انه ما دعاه لاداء عمله الا ابتغاء وجه الله , فيذهب الى المستشفيات والمراكز الطبية لعلاج الفقراء قبل الأغنياء , ويعمل في كل ميادين حياته بمساواه في اتقان العمل مع الغني او الفقير سواء اقتدى اجرا كبيرا ام لا , فهو يدرك ان الذي يسعى من اجله (خالقه) وهو الذي سيغنيه ويفقره وهو الذي سنفعه ويضره

فهذا المثال من الرجل(سواء كان طبيب او في أي عمل آخر) اذا صدق في هذا الأمر لو دعا الله فلن يخذله أيما كان أو يكون

فقد سمعت ذات يوم عن قصة رجل مثل هذا , قدر الله وشاء له ان يسافر الى بلد بعيد وغريب عنها , وكانت حياته كلها حينما كان في قريته في خدمة المحتاجين من الفقراء والأغنياء دون تفرقة, فعندما قدر الله ان يترك بلده ويسافر , ظن انه سيبقى وحيدا ولن يجد من يقدم له المعروف والخدمات ليعيش في هذه البلد الغريب

, ولكنه تذكر ان له رب قد تذكره وعمل في سبيله , فلم ينساه الله , وأرسل اليه من حيث لا يتوقع انسان يقدم له الخدمة ويقول له الست أنت من ساعدتني في مكان كذا يوم كذا ,وهو لم يتذكر ولم يعرفه , لانه كان يقدم الخير للفقير والغني ولاينتظر العطاء الا من من أعطاه هذه الحياة الا وهو الله

, ولم يكتفي الله بهذا العطاء له (فكرم الله أضعاف أضعاف كرم العبد) ,فقد رفعه الله بعلمه في هذه البلد الغريب وجعل له ملكا لم يكن يتوقعه "..ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون"

وهذا جزاء من كان تعامله في كل حياته "مع الله" دون أي مخلوق , فتلك هي التجارة الرابحة

وهذا النموذج الأخير هو ما اتمنى ان نكون فيه جميعا بصدق النوايا والعمل

وأختم بقول الله تعالى

"أولائك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين"

صدق الله العظيم

هذا وما من فضل ونعمة فمن الله وحده, وما من تقصير أو خطأ فمن نفسي ومن الشيطانو

نفعنا الله وإياكم بما علمنا

وجزاكم الله كل خير

أخوكم: عبدالله المغربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق